Thursday, February 21, 2019

أشجار يابانية عتيقة "تتنبأ" بالمستقبل

إذا ما زرت الباحث الياباني تاكيسي ناكتسكا في مختبره بمدينة كيوتو شمالي البلاد، ستجد من بين محتويات المختبر، بقايا شجرةٍ عتيقةٍ للغاية تعود إلى ما بين 2800 إلى 3000 عام. انتشلت هذه البقايا التي تشبه قرصاً لامعاً بحجم صحن تناول العشاء وبلون حساء اللحم الدسم، من أراضٍ رطبةٍ وهو ما يفسر عدم تشوهها. وفي داخل هذا الجذع الموغل في القدم، تقبع أسرارٌ يمكن أن تساعدنا في التحضير للمستقبل.
وقد أمضى ناكتسكا - الخبير في "علم المناخ القديم" بأحد المعاهد اليابانية - العقد الماضي مع فريقٍ يضم نحو 70 باحثاً آخرين، في جهود تطوير وسيلةٍ جديدةٍ وغير مألوفةٍ، للكشف عن أنماط هطول الأمطار في العصور السحيقة، وتفسير تأثيرات ذلك على المجتمع. وقد وفرت نتائج دراساته أفكاراً ورؤى فريدةً من نوعها بشأن هذه الأنماط على مدار 2600 عام من تاريخ اليابان.
ومن خلال كشف النقاب عن المعلومات المختزنة بداخل أخشاب تلك الأشجار التي ظلت مُصانةً في الغابات اليابانية العتيقة، نجح الباحثون في التعرف على كميات الأمطار التي هطلت على مختلف أنحاء هذا البلد الآسيوي على مدى الـ 2500 سنة الماضية، وهو سجلٌ فريدٌ من نوعه.
وكشف الباحثون عن أن مقدار الأمطار التي تهطل على اليابان يتغير فجأةً وبشكلٍ حادٍ كل 400 سنة تقريباً، وهو ما يستمر لفترةٍ من الزمن. وفي تلك الفترات، تتناوب على البلاد عقودٌ تغمرها الفيضانات الناجمة عن الأمطار، وسنواتٌ أكثر دفئاً وجفافاً كذلك؛ كانت ملائمةً لزراعة الأرز. ومع هطول الأمطار أو انقطاعها يزدهر المجتمع الياباني أو يكابد المشقة والمعاناة.
ويشير ناكتسكا إلى أنه بغض النظر عن طبيعة ما ينجم عن هذه التغيرات، فإنها أحْدَثَت ضغوطاً هائلة على من عايشوها. وتكتسب هذه النافذة التي ننظر من خلالها على التقلبات المناخية التي حدثت في الماضي أهميتها من كونها تمنحنا مؤشراً على ما يمكن أن يكون مُدخراً لنا في طيات الغيب خلال السنوات المقبلة، خاصةً في وقتٍ باتت فيه أنماط الطقس حالياً تتحدى التوقعات الخاصة بها على نحوٍ متزايد، كما صارت الظواهر الجوية المتطرفة والقاسية تحدث بوتيرةٍ أكثر تسارعاً وعلى نحوٍ أشد حدة.
ويقول ناكتسكا في هذا الصدد إن الحياة الآن لا تختلف عما كانت عليه قبل ألفٍ أو ألفي عام، سواء من حيث كوننا نعيش دورات الحياة نفسها، ولا نزال نواجه التقلبات الكبيرة والضاغطة التي تحدث كل عدة عقود.
ويُكوّن هذا الرجل صورةً لما حدث في الماضي، بالاستعانة بعناصر من قبيل الحلقات التي تظهر على جذوع الأشجار المعروفة باسم "حلقات النمو"، والشعب المرجانية والرواسب وصواعد الكهوف. لكن الاستخلاصات الأخيرة التي يستعد وزملاؤه الباحثون حالياً لنشرها، تعتمد في الأساس على طريقةٍ جديدةٍ تستخدم النظائر الموجودة في الأخشاب لتقدير أنماط هطول الأمطار.
وتشكل منطقة وسط اليابان موقعاً مثالياً لإجراء دراسةٍ مثل هذه، بسبب كثرة أشجار الهينوكي التي تشكل نوعاً من أشجار السرو المُعمرة. وتتضمن الدراسة التي يجريها ناكتسكا بياناتٍ مستقاةً من 68 من هذه الأشجار. وأُخِذَت العينات التي استُمِدَت منها هذه البيانات، من أشجارٍ حيةٍ ومن جذوعٍ مدفونةٍ، ومن معابد مصنوعةٍ من الأخشاب، وألواح التوابيت الخشبية وغيرها. ويتراوح عمر كل هذه الأخشاب ما بين قرن و1000 عام.
وتساعد نسب نظائر الأكسجين الموجودة في "حلقات النمو" الموجودة في ثنايا جذوع الأشجار على ربطها بالظروف البيئية التي نمت في ظلها. ففي الأيام الجافة، تفقد الأوراق كميةً أكبر من المياه، وتزيد لديها نسبة هذه النظائر مُقارنةً بالأيام الأكثر مطراً، وهو ما يساعد على توفير معلوماتٍ عن الرطوبة النسبية في الغلاف الجوي.
وبفضل قواعد البيانات الخاصة بالأرصاد الجوية في العصر الحديث، تأكد الباحثون من أن هذه الطريقة قدمت قراءاتٍ دقيقةً لأنماط هطول الأمطار في فصل الصيف، حينما استُخْدِمَت مع الأشجار التي تناولتها الدراسة، وكانت لا تزال حيةً إلى وقتٍ قريب من أخذ العينة منها، مُقارنةً بسواها.
وتبين أن المؤشرات المرتبطة بتلك النظائر تشكل ما يمكن أن يُسمى "بصمات الزمن"، فكلٍ منها يرتبط بالسنة التي ظهر فيها لا غيرها. وقد استخدم الباحث الياباني القرائن والمؤشرات الأثرية والتاريخية لتحديد عمر هذه النظائر وربطها بأعمار الأشجار والظروف المناخية، ليتسنى له إعداد جدولٍ زمنيٍ متصلٍ ومتماسكٍ امتد من عام 600 قبل الميلاد إلى عام 2000، ما يوفر تسلسلاً زمنياً مُحكماً ودقيقاً.
ويقول ناكتسكا إنه على الرغم من الدقة البالغة التي تتسم بها التقديرات الناتجة عن اللجوء إلى هذه الطريقة، فإن استخدامها يتطلب كثيراً من الوقت والجهد مُقارنةً بما تستلزمه الدراسات التقليدية، التي تستخدم أسلوب "حلقات النمو".
وبينما استطاع الباحث الياباني أن يتعرف من خلال جدوله الزمني، على ما حدث كل نحو 400 عامٍ من زيادةٍ أو انخفاضٍ على نحوٍ غير منتظمٍ في معدلات هطول الأمطار؛ لم يكن بمقدوره أن يعلم عبر هذا الجدول أسباب هذه الأنماط المتذبذبة.
وتماشت التغيرات التي رصد ناكتسكا حدوثها كل بضعة عقود بشكلٍ كبيرٍ، مع ما أظهرته بياناتٌ أخرى مستقاةٌ من دراساتٍ تقليديةٍ استخدمت أسلوب دراسة "حلقات النمو".
وبالتعاون مع علماء الآثار والمؤرخين، تسنى لهذا الرجل كشف النقاب عن التأثيرات التي خلّفتها التغيرات التي حدثت في معدلات هطول الأمطار، في الأشخاص الذين عاشوا في الحقب التي شهدت تلك التقلبات.
وتبين على سبيل المثال أن أنماط سقوط المطر سواء على المدى الزمني القصير أو الطويل، توافقت مع الشعائر التي قادها كهنةٌ مشاهير في العصور الوسطى للابتهال إلى السماء من أجل نزول الغيث.
واتضح أن تطوير نظم ريٍ وأساليب تعاونيةٍ ينتفع من خلالها المزارعون بالمياه الجوفية بهدف تجنب خطر الجفاف، حدث في أوقاتٍ أظهر فيها السجل الذي أعده ناكتسكا، تدني مستوى هطول الأمطار. الأمر نفسه انطبق على الحقب التي شهدت ظهور سياساتٍ حكوميةٍ استهدفت إنقاذ الرعايا من الموت جوعاً خلال فترات المجاعة.
الأكثر أهمية من كل ذلك، أن التقلبات التي حدثت كل عدة عقود في أنماط هطول المطر، توافقت على نحوٍ منتظمٍ مع حلول الحقب والعصور المهمة في التاريخين الصيني والياباني.
وفي هذا الشأن، يقول كينيشكو باكاباياسي العالم في آثار عصور ما قبل التاريخ في إحدى الجامعات اليابانية إن علماء الآثار كانوا - في الفترة التي سبقت توصل ناكتسكا إلى طريقته التحليلية الجديدة - ينظرون إلى عملية تشكل الدولة في التاريخ الياباني، على أنها مرتبطةٌ في الأساس بمراحل التغير الاجتماعي.
وأضاف باكاباياسي - الذي يدرس توزيع مناطق إقامة الإنسان القديم حول مدينة أوساكا الساحلية - أن الأمر الآن اختلف إذ "صار بوسعنا فهم أن الفيضانات تشكل خلفيةً لمثل هذه التغيرات الاجتماعية".
فخلال ما يُعرف بفترة حكم "يايوي" التي امتدت بين عامي 1000 قبل الميلاد و350 ميلادية، تركزت غالبية المستوطنات البشرية التي أُقيمت قرب نهر يودو بوسط اليابان، في مناطق الدلتا منخفضة الارتفاع. وبدأت زراعة الأرز في تلك الحقبة وأصبحت ركناً رئيسياً من أركان الحياة. وشيّد الناس آنذاك منازل صغيرة تُسمى "لبداتٍ" للإقامة فيها بجانب الحقول الصغيرة التي يُزرع فيها الأرز. وكان هؤلاء الأشخاص يعمدون عند تغير مسارات المياه، إلى تغيير أماكن سكنهم ببساطة لتكون بالقرب منها، متجنبين بذلك حدوث أي اضطراباتٍ واسعة النطاق